مظفر النواب شاعر عربي واسع الشهرة، عرفته عواصم كثيرة شاعراً مشرداً وتهمته تعاطي السياسية.
كغيري ممن سمع به وعرفه عشقت شعره فأحببت لقاءه، وأتيح لي أن أحضر له أمسية شعرية كان الحضور يزيد فيها على ثلاثين ألفاً، ومن وقتها أحببت أن أكتب عنه، إنه مظفر بن عبد المجيد النواب، أصل عائلته من شبه الجزيرة العربية، استقرت في بغداد فهي من سلالة الإمام موسى بن جعفر الكاظم، ثم هاجرت العائلة إلى الهند، وصاروا حكاماً فيها لشرف نسبهم، وبعد احتلال الإنكليز للهند اختاروا العودة إلى العراق موطنهم القديم.
ولد مظفر النواب في بغداد جانب الكرخ عام 1934 في أسرة تحب الأدب وتتذوق الموسيقى والنغم، كان صغيراً عندما بدأ يقرض الشعر وفي المرحلة الإعدادية بدأ بنشر شعره في مجلات المدرسة وبين أصحابه، ثم تابع دراسته في كلية الآداب، وبعد عام 1958 انهار النظام الملكي في العراق، وتم تعيينه مفتشاً فنياً بوزارة التربية، وفي عام 1963 اضطر لمغادرة العراق، بعد الصراع المرير بين القوميين والشيوعيين، فهرب إلى إيران عن طريق البصرة، ولكن السافاك (المخابرات الإيرانية) ألقت عليه القبض عندما كان قاصداً روسيا، فعذب ثم أعادوه إلى الأمن السياسي العراقي فحكم عليه بالإعدام، ولكن بعد المساعي الحميدة التي بذلها الكثير لأجله خفف الحكم إلى السجن المؤبد.
ثم قام مع بعض أصحابه بحفر نفق من الزنزانة أودى بهم إلى خارج أسوار السجن، وبعد هروبه المثير توجه إلى الأهواز واختفى بين الفلاحين ستة أشهر وبعد عام 1969 صدر عفو عام عن المعارضين فرجع إلى سلك التعليم ثانية، ولكن بعد فترة بسيطة تعرض الشاعر للاعتقال وعذب، وبوساطة علي صالح السعدي أطلق سراحه، ثم غادر بغداد إلى بيروت ثم انتقل إلى دمشق وصار يتنقل بين العواصم العربية والأوروبية إلى أن استقر في دمشق كالكثيرين غيره من شعراء العراق ومثقفيه، ويبدو أن هذه التجربة الجديدة في حياته.. تجربة إدمان التشرد والتنقل المفاجئ بين الدول والقارات، أبعدته عن الالتزام الحزبي والتنظيمي لذلك كرس حياته لتجربته الشعرية وتعميقها، والتصدي للأحداث السياسية التي تلامس وجدانه الذاتي، وضميره الوطني.
في إطار الرؤيا الشعرية المتكاملة التي يتأسس عليها شعر مظفر النواب يستطيع الدارس أن يرصد مجموعة من المضامين التي تصر قصائد النواب على طرحها وتعميق أبعادها.. وهي مضامين واضحة ومتمايزة من جهة ومتداخلة ومنصهرة في تكوين واحد من جهة أخرى، وذلك بسبب من شمولية الرؤيا، فالنواب حين ينتقل من مضمون إلى مضمون أو من غرض إلى غرض آخر لا يحتاج إلى حسن التخلص الذي يحتاجه الكثير من الشعراء، إن نفساً شاعرة عميقة واحدة ينبجس عنها هذا الشعر الذي تتمايز ألوان مضامينه عبر موشور القصيدة تمايزاً ينم على تعددها وعلى وحدة الرؤيا الشعرية التي انبجست عنها في آن معاً.
ونرى في قصائد النواب مضمونين عريضين يحتشد فيهما معظم شعره وهما:
شعر النضال السياسي.
شعر المواجيد.
ويندرج في هذين المضمونين العريضين مضامين كثيرة، ففي شعره النضالي السياسي يندرج: الانتماء والبعد الطبقي، مواكبة الحدث النضالي، التعرية السياسية، التاريخ العربي والإسلامي، اغتصاب الأرض العربية، حكام ومواقف، والثوريون المزيفون، وسنتحدث عن شعره النضالي السياسي.
أما شعر المواجيد فله بحث آخر...
الانتماء والبعد الطبقي:
منذ قصيدة وتريات ليلية ـ الحركتان الأولى والثانية 1970 ـ 1975 يطالعنا شعر النواب بانتمائه إلى العروبة روحاً ولغة يقول في المقطع الثاني من الحركة الأولى:
كيف اندسّ بهذا القفص المقفل في رائحة الليل
كيف اندس كزهرة لوز
بكتاب أغانٍ صوفية
كيف اندس هناك على الغفلة مني
هذا العذب الوحشي الملتهب اللفتات هروباً ومخاوف
يكتب فيّ..
يمسح عينيه بقلبي
في فلتة حزن ليلية
يا حامل مشكاة الغيب بظلمة عينيك
ترنم من لغة الأحزان
فروحي عربية
ويقول في مقطع آخر...
ترنم من لغة القرآن فروحي عربية.
مواكبة الحدث النضالي:
إن الدارس لشعر النواب يراه سجلاً حافلاً بالأحداث النضالية ذات الحساسية السياسية الخاصة التي تتخذ العنف الثوري منهجاً وأسلوباً، فهو يؤرخ بشعره تاريخاً وجدانياً لهذه الأحداث يمجدها ويبجل أبطالها، ففي شعره نقرأ عن (سليمان خاطر) و(خالد أكر) و(ناجي العلي) و(حسين مزنر) و(سهى بشارة) ونقرأ غيرهم الكثير ممن تركوا البصمات المضيئة بنضالهم، فها هو يمزج العاطفة الدينية والثورية في رؤية واحدة ترى في سليمان خاطر صِدِّيقاً نبياً وإماماً فيقول:
لم أزل أرجع للكتاب والختمة والقرآن، طفلاً..
دائماً ألقاك في شارعنا الفرعي
تؤويني من الصيف العراقي بثوبيك
وتتلو صبر أيوب على وجهي، ولكنني
مهووس غراماً
ببيوت أذن الله بأن يذكر فيها
وكثيراً هيمتني
(ألم نشرح)
(والضحى)
يا أخت هارون ولا أمك قد كانت بغياً
زكريا
وسليمان بن خاطر كان صديقاً نبياً
وإماماً
ويقول عن سهى بشارة في آخر قصيدته (ملازم عن المسك وشتائم جميلة):
تزور الشريط الحدوديّ
قد زنرت خصرها بسلام صغير، كبرعم ورد..
جميع الحقول أتت خلفها، تتفرج لاهثةً
في كمال الأنوثة والعطر والوعي تدخل في جيش لحدٍ
وتفرغ كامل وردتها..
المسدس وردة هذا الصباح الجنوبي
ويقول عن أطفال الحجارة الذين يرى أن في فعلهم هذا فاتحة عهد ثوري جديد للأرض:
حجر ليس يحتاج زيتاً ولا قطعاً للغيار
وليس يكلفنا عملة صعبة
المحلي معجزة الشعب
انظر وراء همومك
هذا الصغير يطير كقاذفة في الجليل
وذي طائرات الحكومات.. نائمة وتبعرر!!
ليس هذي الحجارة إلا مقدمة اللحن
التعرية السياسية:
لقد تفتح شعر النواب على أحداث جسام تعصف بالوطن العربي فتركت في نفسه انكسار الحلم العربي من 1948 وحتى حزيران 1967 إلى اجتياح بيروت 1982 إلى احتلال الكويت وتدمير العراق وإلى نهر الدم المتدفق من أطفال الحجارة في الأرض المحتلة، ومن وطن عربي يمتلك أعلى احتياطي من مخزون النفط العالمي إلى وطن عربي يرزح تحت ديون فظيعة.
فماذا بوسع شاعرنا أن يفعل مقابل كل هذه التحديات التي تنخر بالوطن.
هل يطلق على رأسه النار كما فعل خليل حاوي؟
هل يطلق صرخته (لا تصالح) ويموت قهراً كما فعل أمل ونقل؟
هل يذهب إلى مشفى المجانين كما فعل نجيب سرور؟
هل يسقط مذبوح القلب كما صلاح عبد الصبور؟
أم يكتب مديحاً للظل العالي كما فعل محمود درويش؟!
إن شاعرنا ينحدر من تراجيديا إنسانية مروعة صبغت التاريخ العربي الإسلامي بدماء شهداء كربلاء ففرض عليه النحيب الذي لا يمحى فقام بالتعرية السياسية للتاريخ العربي الإسلامي من أيام علي إلى زماننا هذا، فكانت صرخته "قتلتنا الردة".
قال فيها:
هل عرب أنتم..؟
والله أنا في شك من بغداد إلى جدة
هل عرب أنتم..؟!
وأراكم تمتهنون الليل على أرصفة الطرقات الموبوءة
أيام الشدة!
قتلتنا الردة.
قتلتنا أن الواحد منا يحمل في الداخل ضده..
التعرية السياسية لاغتصاب الأرض العربية:
يقول في وتريات ليلية مندداً باغتصاب عربستان:
من هرب هذي القرية من وطني؟!
من ركب أقنعة لوجوه الناس؟
من هرب ذاك النهر المتجوسق بالنخل على الأهواز؟
أجيبوا..
فالنخلة.. أرض عربية.
ويصب الشاعر جام غضبه وشتائمه في كل اتجاه من أجل التفريط بالقدس، وتمكين الصهاينة منها فيقول في وترياته:
القدس عروس عروبتكم
فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها
ووقفتم تسترقون السمع وراء الأبواب لصرخات بكارتها
وسحبتم كل خناجركم، وتنافختم شرفاً
وصرختم فيها أن تسكت صوناً للعرض
فما أشرفكم!
لا تهتز لكم قصبة
في كل عواصم هذا الوطن العربي قتلتم فرحي
أصرخ فيكم
أين شهامتكم؟
فالقدس عروس عروبتكم
تعرية الحكام والأنظمة والمواقف السياسية المشبوهة:
يظهر للدارس لشعر النواب أن في شعره مقاطع تكاد تكون مخصصة لحكام معينين تنال منهم ومن سلوكهم وتبرزهم بصور كاريكاتورية، فهو يلقي التبعة على الحكام المشبوهين فقط، ويتوقع من المخلصين أن يقودوا الأمة إلى الأحسن، أما المشبوهون فلن يقودوها إلا إلى الأسوأ والأفظع فيقول في بعض وترياته:
أقسمت بثورات الجوع ويوم السغبة
لن يبقى عربي واحد في الشرق إذا بقيت
حالتنا هذي الحالة بين حكومات الكسبة
ويقول:
سنصبح نحن يهود التاريخ
ونعوي في الصحراء بلا مأوى
ماذا تدعى الجلسات الصوفية في الأمم المتحدة؟
وهكذا يستمر يهاجم الحكام الذين استسلموا لشروط العدو وارتموا في حضنه.
ملاحظات نقدية لشعر النواب النضالي السياسي:
يتمتع شعر النضال السياسي عند النواب بدرجة عالية من الشمول في الرؤية الشعرية المؤسسة على جذر تاريخي عميق ومهاد اجتماعي محدد طبقياً وسياسياً.
ويتمتع هذا اللون من الشعر عنده بالانسجام والتجانس الشعري الشعري، والشعري الحياتي، الأمر الذي يؤكد صدق التجربة الشعرية النوابية.
وحياة النواب هي قصيدته الرائعة فهو منسجم حياتياً مع شعره، إنه مشرد مطارد وشعره شعر مطارد، شعره يرفض المواقف السياسية المشبوهة، ويرفض العطاء الذي يمكن أن يقدم إليه من الجهات صاحبة هذه المواقف، إنه مع الفقراء وهو فقير، لا نعرف له شعراً بمدح حاكم ولا نعرف له تملقاً لنظام، إنه هو هو النواب الشاعر والنواب الإنسان.
ويتمتع شعر النضال السياسي عنده بالوضوح والجرأة، ولهذا عدة عوامل منها طبيعته الشخصية، وطبيعة المواضيع التي يتناولها، وطبيعة المرحلة السياسية التي يتعامل معها، مما تفرع عن هذه الجرأة بذاءة المفردات التي استخدمها في بعض المواضع، وللحق نقول إن هذه المفردات التي ندعوها ظلماً بذيئة هي مفردات من اللغة العربية وُجدت لتستخدم في مواضعها، كما يرى الجاحظ، فلماذا نتحرج منها، وهذه المفردات وأكثر منها استعملها كبار الشعراء والأدباء فقبله كان بشار بن برد ودعبل الخزاعي وغيرهما كثير، ونرى أن النواب قد تعامل مع حالات بما تستحق من هذه الكلمات فكان الجزاء من نوع العمل.
وشعر النضال السياسي عند النواب يمثل شهادة غنية الدلالات على الواقع الذي أفرزه، بل هو المكمل الحقيقي لصورة الواقع فالساسة الذين لا يأتيهم الباطل من خلفهم ولا من بين أيديهم، لا يُسألون عما يفعلون، ومنزهون إلى حد السماح بنقد كل شيء عدا شخوصهم المعصومة، هؤلاء جزء من صورة الواقع التي لا تكتمل إلا بشاعر يسلقهم بلسانه ويغمرهم بشتائمه..
وأخيراً نرى شعره يؤمن بالتخريب ويرى في أن التخريب مقدمة حقيقية للبناء من جديد.
يقول في ختام الحركة الأولى من الوتريات:
سيكون خراباً.. سيكون خراباً..
هذي الأمة لا بُدّ لها أن تأخذ درساً في التخريب..
ويقول في الحركة الثانية:
اللهم ابتدأ التخريب الآن
فإن خراباً بالحق
بناء بالحق..
إنه الشاعر مظفر النواب الذي أفرد في عصره لتمجيد الأعمال النضالية الفردية، إنه واحد من أهم شعراء الحداثة وأعمق الشعراء العرب المعاصرين إحساساً بالغربة والضياع والنفي والتشرد، لا يعرف الاستقرار في