هَدْيُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم (77)بسم الله الرحمن الرحيم
كَلامُ اللهِ تعالى (3)
مِنْ أَقْوَى الأَدِلَّةِ لأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَهْلِ الْحَقِّ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ عَلى أَنَّ كَلامَ اللهِ الَّذي هُوَ صِفَةُ ذَاتِهِ لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا وَلا لُغَةً لَيْسَ كَكَلامِ الْعَالَمين أَنَّ اللهَ تعالى هُوَ الَّذي يُحَاسِبُ عِبَادَهُ في الآخِرَةِ وَذَلِكَ بِأَنْ يُزِيلَ عَنْ أَسْمَاعِهِمُ الْحِجَابَ الْمَعْنَوِيَّ الْمَانِعَ مِنْ سَمَاعِ كَلامِهِ الْمَوْجُودِ أَزَلاً وَأبَدًا وَيَسْمَعُ كُلُّ الإنْسِ وَالْجِنِّ كَلامَ اللهِ فَيَفْهَمُونَ مِنْهُ السُّؤالَ عَنْ أَعْمَالِهِمْ وَنِيَّاتِهِم وَأَقْوَالِهِم لِمَ فَعَلْتَ كَذَا لِمَ قُلْتَ كَذَا أَلَمْ أُعْطِكَ كَذَا وَيَفْرُغُ اللهُ مِنْ حِسَابِ الْعِبَادِ في وَقْتٍ قَصِيرٍ جِدًّا قَالَ اللهُ تعالى عَنْ نَفْسِهِ "
سَرِيعُ الْحِسَاب" [سورة الرعد، 41] وَقَالَ "
ثُمَّ رُدُّوا إِلى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ ألا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبين"[سورة التوبة، 62] مَعْنَاهُ اللهُ أَسْرَعُ مِنْ كُلِّ حَاسِبٍ،
فَلَوْ كانَ كَلامُ اللهِ حَرْفًا وَصَوْتًا وَلُغَةً لأَخَذَ الْحِسَابُ وَقْتًا طَوِيلاً جِدًّا وَلَكَانَ اللهُ أَبْطأَ الْحَاسِبينَ وَلَمْ يَكُنْ أَسْرَعَ الْحَاسِبينَ كَمَا قالَ وَذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ لأَنَّ كَلامَ اللهِ حَقٌّ، فَانْظُرْ يَا طَالِبَ الْحَقِّ لَوْ كَانَ حِسَابُ إِبْلِيسَ الَّذي خُلِقَ قَبْلَ ءادَمَ وَسَيَعيشُ إِلى يَوْمِ النَّفْخِ في الصُّورِ بِكَلامٍ هُوَ حَرْفٌ وَصَوْتٌ وَلُغَةٌ كَمْ يَأْكُلُ ذَلِكَ مِنَ الْوَقْتِ وَقَدْ وَرَدَ في صَحيحِ الْبُخَارِيِّ "
أَنَّ يَأجُوجَ وَمَأجُوجَ -وَهُمْ كُفَّارٌ مِنْ بَني ءادَمَ-
الْبَشَرُ بِالنَّسْبَةِ إِلَيْهِمْ كَوَاحِدٍ إِلى أَلْفٍ" وَأَنَّهُ يُوجَدُ خَلْفَهُمْ ثَلاثُ أُمَمٌ مَنْسَك وَتَاوِيل وَتَارِيس كُلُّ هَؤُلاءِ لَوْ كَانَ حِسَابُهُمْ بِالسُّؤالِ بِكَلامٍ هُوَ لُغَةٌ وَحُرُوفٌ وَأصْواتٌ لأَكَلَ الْحِسَابُ زَمَانًا طَويلاً جِدًّا وَلَكَانَ ذَلِكَ ضِدّ قَوْلِ اللهِ تعالى "
أَسْرَعُ الْحَاسِبينَ" الَّذي مَعْنَاهُ أَنَا أَسْرَعُ مِنْ كُلِّ حَاسِبٍ. وَالدَّليلُ عَلَى أَنَّ كُلَّ الْعِبَادِ مِنْ إِنْسٍ وَجِنٍّ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ في الآخِرَةِ لِلْحِسَابِ مَا جَاءَ في صَحيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ
"مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ وَلا حَاجِبٌ" أَمَّا مَا وَرَدَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
"ثلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ولا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"
فَلَيْسَ فِيهِ مُعَارَضَةٌ لِذلِكَ الْحَديثِ الصَّحيحِ حَديثِ الْبُخَارِيِّ لأَنَّ مَعْنَى "لا يُكَلِّمُهُمْ" هُنَا لا يَسْمَعُونَ كَلامَهُ فَيَفْرَحُونَ لا أَنَّهُمْ لا يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ التَّقِيَّ في الآخِرَةِ إِذَا سَمِعَ كَلامَ اللهِ يَفْرَحُ وَالْكَافِرَ يَغْتَمُّ وَيَحْزَنُ وَمَعْنى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم "وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ" أَيْ لا يُكْرِمُهُم، فَاللهُ تعالى لَهُ صِفَةُ الْبَصَرِ بَصَرُهُ وَاحِدٌ أَزَلِيٌّ أَبَدِيٌّ لَيْسَ بِآلَةٍ وَلَيْسَ كَبَصَرِ غَيْرِهِ يَرى بِبَصَرِهِ كُلَّ مَا يُرَى.
أَمَّا قَوْلُ اللهِ تعالى "
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ فَإِذَا قَرَأنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءانَهُ" [سورة القيامة، 16]
فَمَعْنَاهُ يَا مُحَمَّدُ لا تَقْرَإِ الْقُرْءَانَ أَثْنَاءَ تِلاوَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْكَ خَشْيَةَ أَنْ يَنْفَلِتَ مِنْكَ نَحْنُ ضَمِنَّا لَكَ أَنْ لا يَنْفَلِتَ مِنْكَ فَإِذَا جَمَعْنَاهُ لَكَ في صَدْرِكَ "فَاتَّبِعْ قُرْءانَهُ" أَيْ فاعْمَلْ بِهِ، وَفَسَّرَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ تعالى "
فَإِذَا قَرَأنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءانه"
أَيْ فَإِذَا قَرَأهُ جِبْرِيلُ عَلَيْكَ بِأَمْرِنَا فَاتَّبِعْ قِرَاءتَهُ، كَمَا في قَوْلِ اللهِ تعالى "
فَنَفَخْنَا فيهِ مِنْ رَوحِنا" [سورة الأنبياء، 91]
أَيْ أَمَرْنَا الْمَلَكَ جِبْرِيلَ فَنَفَخَ في فَمِ مَرْيَمَ رُوحَ عِيسى بِأمْرٍ مِنَ اللهِ.وَأَمَّا قَوْلُهُ تعالى "
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كريم" [سورة التكوير، 19
] فَفيهِ دَلِيلٌ عَلى أَنَّ هَذَا الْقُرْءانَ الْمُنَزَّلَ هُوَ مَقْرُوءُ جِبْريلَ لأَنَّ اللهَ لا يُسَمَّى رَسُولاً كَريْمًا وَالدَّليلُ على أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ جِبْريلُ قَوْلُهُ تعالى بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ "
ذِي قُوَّةٍ عِنْذَ ذِي الْعَرْشِ مَكين" [سورة التكوير، 20]
أَيْ جِبْرِيلُ قَوِيٌّ وَلَهُ دَرَجَةٌ عَالِيَةٌ عِنْدَ خَالِقِ الْعَرْشِ أَيِ الله "
مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِين" [سورة التكوير، 21]
أَيْ يُطِيعُهُ الْمَلائِكَةُ في السَّمَاواتِ فَهُوَ رَئيسُهُم وَهُوَ رَسُولُ الْمَلائِكَةِ وَأفْضَلُهُم.فَتَبَيَّنَ لَكَ يا طَالِبَ الْحَقِّ أَنَّ كَلامَ اللهِ الَّذي هُوَ صِفَتُهُ لَيْسَ كَكَلامِ الْعَالَمِينَ إِنَّمَا هُوَ كَلامٌ وَاحِدٌ أَزَلِيٌّ أَبَدِيٌّ لا يُوصَفُ بِأَنَّهُ لُغَةٌ أَوْ حَرْفٌ أَوْ صَوْتٌ وَأَنَّ الْقُرْءَانَ الْكَرِيمَ وَسَائِرَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلى الأَنْبِيَاءِ هِيَ عِبَارَاتٌ عَنْ ذَلِكَ الْكَلامِ وَتَبَيَّنَ لَكَ أَنَّهُ لا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللهَ قَرَأَ الْقُرْءانَ عَلَى مُحَمَّدٍ كَمَا يَقْرَأُ الأُسْتَاذُ عَلى التَّلْمِيذِ إِنَّمَا الَّذي قَرَأَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِما السَّلامُ، وَتَبَيَّنَ لَكَ أَنَّهُ لا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ عَنِ اللهِ نَاطِقٌ لأَنَّ هَذَا مِنْ صِفَاتِ الْخَلْقِ إِنَّمَا يُقَالُ اللهُ مُتَكَلِّمٌ.وَاللهُ أَعْلَمُ وَأحْكَمُ
هَدْيُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم23 بسم الله الرحمن الرحيم
كلامُ اللهِ لا يُشبهُ كلامَ العالمين
قالَ اللهُ تعالى
"وللهِ الْمَثَلُ الأَعْلى"
أَيْ للهِ الوَصْفُ الَّذِي لا يُشْبِهُ وَصْفَ غَيْرِهِ، وَمِنْ صِفَاتِ اللهِ تعالى الْكَلامُ قَال تعالى "
وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيمًا"
أَيْ أَسْمَعَ اللهُ مُوسى كَلامَهُ الأَزَلِيَّ الأَبَدِيَّ الَّذِي لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلا صَوْتٍ فَكُلُّ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ وَهِيَ مِائَةٌ وَأَرْبَعٌ كُلُّهَا لَيْسَ اللهُ قَرَأَها كَمَا نَحْنُ نَقْرَأُ إِنَّما هيَ أَلْفَاظٌ أَخَذَهَا جِبْرِيلُ مِنَ اللَّوْحِ المحْفُوظِ ونَزَلَ بِهَا على الأَنْبِياءِ فَجِبْرِيلُ هُوَ الَّذي قَرَأَ على الرَّسُولِ الْقُرْءانَ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تعالى "
فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءانَهُ" أَيْ فَإِذَا قَرَأَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْكَ بِأَمْرِنَا فَاتَّبِعْ قِرَاءَتَهُ،
فَلا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللهُ قَرَأَ كَمَا نَحْنُ نَقْرَأُ الْبَاءَ ثُمَّ السِّينَ ثُمَّ الْمِيمَ في بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحيمِ، لأَنَّ هَذَا تَعَاقُبٌ، وَمَعْنَى التَّعَاقَب أَنَّهُ يُوجَدُ شَىءٌ فَيَنْتَفِي الآخَرُ الَّذي قَبْلَه وهكذا فَالْعَبْدُ حِينَ يَنْطِقُ بِبِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ لَمَّا نَطَقَ بِالْسِّينِ انْتَفَتِ الْبَاءُ وَلَمَّا نَطَقَ بِالْمِيمِ انْتَفَتِ الْسِّينُ وَهَذَا عَلامَةُ الْحُدُوثِ لِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ
لا يُسَمَّى اللهُ نَاطِقًا إِنَّمَا يُسَمَّى مُتَكَلِّمًا فَلَوْ كَانَ اللهُ نَاطِقًا بِالْقُرْءَانِ كَنُطْقِ الْخَلْقِ كَمَا يَعْتَقِدُ الْمُشَبِّهَةُ لِكَانَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَامَتْ بِهِ صِفَةٌ حَادِثَةٌ أَيْ مَخْلُوقَةٌ وَقِيامُ الصِّفَةِ الْمَخْلُوقَةِ في شَىْءٍ دَلِيلٌ عَلى تَغَيُّرِهِ وَأَقْوى عَلامَاتِ الْحُدُوثِ التَّغَيُّرُ وَلا يَقُولُ عَاقِلٌ مُؤْمِنٌ انَّ اللهَ مُتَغَيِّرٌ ، وكَلامُ اللهِ لَيْسَ شَيْئًا لَهُ مُفْتَتَحٌ وَمُخْتَتَمٌ، كَلامُنَا لَهُ ابْتِدَاءٌ وَانْتِهَاءٌ، اللهُ لا يَتَكَلَّمُ هَكَذَا، اللهُ لَهُ صِفَةُ الْكَلامِ الَّذي لَيْسَ كَكَلامِ الْعَالَمِينَ وَعُبِّرَ عَنْهُ بِمَا جَاءِ في الْقُرْءانِ والْكُتُبِ الَّتي نَزَلَتْ عَلى الأَنْبِيَاءِ، فَالْعِبَارَةُ شَىْءٌ وَالْمُعَبَّرُ عَنْهُ شَىْءٌ ءاخَرُ، كَمَا إِذَا قَالَ الْقَائِلُ لَفْظَ الْجَلالَةِ "اللهُ" فَلَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْخَالِقَ حَلَّ في لِسَانِهِ إِنَّما هَذَا اللَّفْظُ "اللهُ" هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْخَالِقِ الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ، فَجِبْرِيلُ أَخَذَ أَلْفَاظَ القُرْءانِ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفوظِ لَيْسَ هُوَ أَلَّفَهُ
. وَجِبْريلُ يَسْمَعُ كَلامَ اللهِ الَّذي لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا لَيْسَ شَيْئًا يُتَصَوَّرُ، فَيَفْهَمُ مِنْهُ قُلْ لِمُحَمَّدٍ كَذَا قُلْ لِعِيسى كَذَا فَيُنَفِّذُ. فَالْقُرْءانُ لَهُ إِطْلاقَانِ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ اللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ وَهَذَا مَا أَخَذَهُ جِبْرِيلُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفوظِ وَقَرَأَهُ عَلى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَيُطْلَقُ الْقُرْءانُ عَلَى مَعْنَى صِفَةِ اللهِ الْكَلامِ الَّذي لَيْسَ هُوَ كَكَلامِ الْعَالَمِينَ، هَذِهِ عَقِيدَةُ الْمُسْلِمينَ الَّتي تُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ اللهِ تعالى "
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ" مَنِ اعْتَقَدَهَا نَجا وَمَنِ اعْتَقَدَ خِلافَهَا ضَلَّ وَهَلَكَ.
هَدْيُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم24بسم الله الرحمن الرحيم
كلامُ اللهِ لا يُشبهُ كلامَ العالمين (2)
قالَ أهْلُ الْحَقِّ الدَّليلُ عَلى أَنَّ اللهَ تعالى مُتَكَلِّمٌ بِكَلامٍ لَيْسَ حَرْفًا ولا صَوْتًا هُوَ مَا جَاءَ في الْقُرْءانِ الْكَرِيم :"ثُمَّ رُدُّوا إِلى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقُّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبينَ" وَقَوْلُهُ تَعالى: "وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ" المعنى أَنَّ اللهَ تعالى في يَوْمِ الْقِيامَةِ يُزيلُ عَنْ أَسْمَاعِ الْخَلْقِ الْحِجَابَ الْمَعْنَوِيَّ الْمَانِعَ مِنْ سَمَاعِ كَلامِهِ الأَزَلِيِّ الأَبَدِيِّ فَيَسْمَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الإنْسِ كَلامَ اللهِ وَيَفْهَمُونَ مِنْهُ السُّؤالَ عَنِ الأَقْوَالِ والنِّيَّاتِ والأَفْعَالِ وَيَنْتَهِي اللهُ مِنْ حِسَابِ الْعِبَادِ في وَقْتٍ قَصِيرٍ[1] فَلَوْ كَانَ كَلامُهُ الَّذِي يُكَلِّمُ بِهِ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَرْفًا وَصَوْتًا وَلُغَةً لَمَا كَانَ سَرِيعَ الْحِسَابِ بَلْ لَكَانَ أَبْطَأَ الْحَاسِبِينَ. فَلَمَّا كَانَ كَلامُ اللهِ لَيسَ حَرْفًا ولا صَوْتًا كَانَ اللهُ أَسْرَعَ الْحَاسبينَ كَمَا جَاءَ في القُرْءَانِ الْكَريم. فلَوْ كَانَ اللهُ يُكَلِّمُ هَذَا وَهَذَا بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ مَا كَانَ أَسْرَعَ الْحَاسِبينَ لأَنَّ الْحِسَابَ كَانَ يَسْتَغْرِقُ زَمَانًا طَويلاً، الْجِنُّ أَكْثَرُ مِنَ الإِنْسِ وَأَعْمَارُهُمْ أَطْوَلُ عَادَةً، وَالْبَشَرُ قِسْمٌ مِنْهُمْ ظَاهِرٌ وَقِسْمٌ أَخْفَاهُمُ اللهُ في جِهَةٍ مِنَ الأَرْضِ وَهُمْ قَوْمُ يَأْجُوجَ وَمَأجُوجَ، في يَوْمِ الْقِيَامَةِ هُمْ أَلْفٌ وَالْبَشَرُ كُلُّهُمْ جُزْءٌ مِنْ أَلْفٍ، وَيَأجُوجُ وَمَأجُوجُ كُلُّهُمْ كُفَّارٌ وَخَلْفَهُمْ أَقْوَامٌ: مَنْسَك وَتَاويل وَتَارِيس، هَؤُلاءِ لَمْ يَطَّلِعِ الْبَشَرُ عَلَيْهِمْ إِلى الآنَ، كُلُّ هَؤُلاءِ لَوْ كَانَ حِسَابُهُمْ بِالْحَرْفِ والصَّوْتِ لأَكَلَ زَمَانًا طَويلاً، فَكَانَ هَذَا أي قَوْلُهُ تعالى "سَرِيعُ الْحِسَابِ" وَقَوْلُهُ "أَسْرَعُ الْحَاسِبين" أَقْوَى دَلِيلٍ لأَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ كَلامَ اللهِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ ذَاتِهِ لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا وَلا لُغَةً.[1] أَيْ أَنَّ حِسَابَ الْعِبَادِ الَّذي بَدَأَ يَنْتَهِي في وَقْتٍ قَصِيرٍ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللهَ تعالى يَتَّصِفُ بِصِفَةٍ ثُمَّ تَزُولُ عَنْهُ لأَنَّ حُدُوثَ الصِّفَةِ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللهِ كَمَا أَنَّ زَوَالَ صِفَةٍ عَنِ اللهِ هُوَ مُتَّصِفٌ بِهَا مُحَالٌ.