القراءة :
القصيدة كما يلاحظ القارئ، تبدأ بعرض المكان ووصف البيئة :
رلى قبيلة تسكن حماة وبلاد الشام عامة ، عددهم كبير، ينتقلون حيثما يطيب لهم . هم غزاة يلاحقون أعداءهم، وهم أبطال أشداء لا يقعد عن القتال أيٌّ منهم .
ثم تطرقت القصة إلى بقاء الصغار في الخيام، و ذكرت عليا وعصام اللذين يرعيان المواشي معًا، وقد أحبا بعضهما البعض. ويمضي الزمن ، ويكبر الفتى والفتاة.
وهنا تبدأ أزمة القصة، فالأم تدخل مسرح الأحداث، وتفاجئ ابنها بخبر مقتل أبيه. ومن القاتل؟ إنه أبو عليا بالذات. ثم ما تلبث أن تصف التقاليد القبلية ووجوب الثأر، وإلاّ فإن كل نكوص عن ذلك يؤدي إلى معرة بين القبائل.
يعجب كيف يمكن أن يكون أبوه قد قُتلَ وهو البطل الهمام ؟
إن الأم تعرف كذلك أن ابنها يعشق عليا، ولذا فهي تخشى ألا يقدم على الثأر ، فتعمد إلى أن تحمّسه ليروي الأسَّنةَ من دماء والدها، فالشرف هو في أخذ الثأر. وعليه ألا يتردد بسبب غرامه وهواه.
وتتطور الأحداث لتصل إلى المبارزة بين عصام وأبي عليا، وتنتهي بمصرع أبيها. وفيما كان يخبر أمه بأنه أخذ ثأره، وشفى غليله، وإذا بعليا تقبل وتناشد حبيبها أن ينتقم لأبيها، وما كانت تعلم أن حبيبها هو القاتل بعينه.
هنا تبدأ حلقة أخرى في الفاجعة، فها هو يغمد سيفه في أحشائه، حتى يكون بذلك الرجل الوفي لحبيبته المنتقم لها.
وتأتي الحلقة الأخيرة لتجد عليا ، وهي تنتحر وتقول له: ((لا تمت قبلي عصام)).
* * *
نحن هنا أزاء قصة تراجيدية تذكرنا بتراجيدية شكسبير ((روميو وجولييت)) التي كتبها سنة 1595. وهذه المسرحية تصور مأساة عاشقين شاء سوء طالعهما أن يكونا من أسرتين متخاصمتين أشد الخصام... وقد دفعت أحداث قاهرة إلى قتل ابن عم جولييت في مبارزة جرت بينه وبين روميو. فحكم على روميو بالنفي.
يكره والد جولييت ابنته على أن تتزوج من رجل آخر، ضاربًا بأشواق ابنته عرض الحائط . تتناول جولييت عقارًا مخدرًا ، فيدخل في وهم الناس أنها ماتت. وما أن يبلغ النعي إلى روميو حتى يتجّرع السم عندها.
لما أفاقت جولييت من غيبوبتها وألفت حبيبها صريعًا، قررت أن تنتحر بخنجر روميو نفسه.
ونحن نشاهد أن المسرحية لا تعمد إلى المباشرة كما هي القصيدة. فقد بنيت على خطأ قد حدث في قتل ابن عم جولييت - أدى إلى أن يدفع روميو الثمن باهظًا، بينما بنيت القصيدة على ((الثأر)) الذي هو أقوى من ((الحب)) في أعراف القبيلة.
إن شكسبير جعل جولييت تتحايل لتتخلص من زواجها بالغريب، فإذا هذه الحيلة تصبح خطأ قدريًا آخر أدّى إلى عقاب الموت. بيد أن القصيدة ركزت على معنى الوفاء والتضحية، فهو يثأر لأبيها( من نفسه)، وهي تقابله حتى لا تكون أقل وفاء في الهوى.
إن عنصر التضحية نجده كذلك لدى جولييت في نهاية المسرحية، كما وجدنا لدى روميو قبيل ذلك، وقد ظنها قتيلة ، ولكنه موظف بعيدًا عن مجرد الثأر.
وتشترك المسرحية والقصيدة بتكالب العوامل الخارجية على حكاية الحب، وكيف تكون النهاية فاجعة مزدوجة.
وموضوع ((الثأر)) في القصيدة كان إيلاؤه له الأهمية الأولى :
((وإلا عابك العرب الكرامُ))، ((وإلا عشتَ بين العربِ نذلاً))، ((ولا يمنعكَ عن شرفٍ غرامُ))... وهذا يعكس واقعًا عربيًا قبليًا، لسنا في حاجة إلى جعله سنّة متّبعةً أو مثلاً يُحتذى على الأقل في المستوى التربوي ووالإنساني.
ولكنا من جهة أخرى نجد في هذه القصيدة انعكاسًا صادقًا وأمينًا ومعبرًا عن واقع جرى وقد يجري بين القبائل، تمامًا كما نعًلم قصائد فنّية تتحدث عن الخمرة أو الغزل بالمذكّر، أو وصف لبعض ما ننكره. فالشعر - أداءً هو شيء، وتلقيه ليكون درسًا تعليميًا هو شيء آخر.
القصيدة من الشعر القصصي، وقد عرفنا في الشعر العربي القديم بعض الحكايا الشعرية ، كحكاية ما جرى للمنخل اليشكري أو قصص عمر بن أبي ربيعة الغزلية. ولكن القصة بمعناها الفني كانت سمة للتجديد في الشعر الحديث لما فيها من حوار قصصي فيه تخّيل وتمثيل. وقد أبدع اللبنانيون، ومن ثم شعراء المهجر في ذلك.
إن هذه الحواريات بين الأم وابنها ، ثم بين عصام وعليا، من شأنها أن تنقل لنا الجو المسرحي، بل إن ((المونودراما)) في النهاية على لسان عليا في الجملتين الشعرييتين المقولتين تخلقان جوًا دراميًا مؤثرًا.
ويلاحظ القارئ أن القصيدة حاشدة بالتعابير المستقاة من التراث ((فما وراءك يا عصام)) هي حكاية مثل أوردها ((مجمع الأمثال)) للميداني في سياقين مختلفين، يدل أحدهما على معنى انجلاء الخبر. وأما ((على الدنيا ومن فيها السلامُ)) فقد أصبحت كذلك مثلاً، وأكبر ظني أن القصيدة هي التي بنت هذه المقولة المأثورة، ولم أقع على قول مأثور كان قد سبق الشاعر.
كذلك لاحظنا التعبير ((أضرَّ به الجمام)).
حيث يعيدنا هذا إلى قصيدة المتنبي في وصف حاله :
doPoem(0)
|
يقول لي الطبيبُ أكلتَ شيئًافداؤكَ في شرابِكَ والطعـام |
وما في طبّهِ أنـي جـوادٌأضرَّ بجسمِهِ طول الجِمـامِ |
|
كذلك في قوله ((وللكلوم ِ به كلامُ)) تجنيس لفظي يضفي موسيقى وفنية من خلال اكتشاف الفرق بين المعنيين، وقديمًا وقفت العرب على لفظه (كلم) في المثل: ((كلم اللسان أنكى من كْلم السّنانِ)) .
وبسبب جو الفروسية القبلية برزت أدوات القتال مما يلائم طبيعة الموقف (أسنّة، سهام، مهنَّد، حُسام، سيف، الهندي...) بالإضافة إلى ألفاظ (غزاة، غزو، فرسان، عقد القُتام، المطاردة، صهوات خيل...).
ويُلاحظ أن الشاعر استعمل لفظتي ((عجايا)) و ((عجيان)) من الواقع البدوي مباشرة. إذ أن المعنى القاموسي للعجي هو اليتيم الذي يغذّى بغير لبن أمه، وفي الحديث الشريف: (( كنتُ يتيمًا ولم أكن عجيًا)) ومن معاني العجي السيئ الغذاء، وقد أنشد الشاعر :
doPoem(0)
|
يسبق فيها الحمل العجيارغلاً إذا ما آنس العشيّا |
|
(انظر لسان العرب،مادة عجي)
لكن لفظة (العجي) وردت كذلك بمعنى ((الصغير)) على لسان البدو في النقب . ولعل ثمة سببًا اجتماعيًا حرّف من المعنى الأصلي المعجمي فنقله من التخصيص إلى التعميم.
وبعد :
فهذه هي (رلى عرب) التي يبحث عنها الكثيرون ولا يجدونها في أي كتاب متداول، أقدمها لعشاق هذا الشعر، آملاً أن أكون مفيدًا للذائقة ، ومعيدًا سيرة رويت على الألسنة، سيرة تبحث عن معاني الوفاء حتى فيما لا ندعو إليه اليوم .